الأحد، 18 أغسطس 2013

المطبخ الرافديني




 المطبخ الرافديني




عن موقع الدكتور بهنام ابو الصوف: http://www.abualsoof.com/index.asp


كان المطبخ السومري، مثل الفرنسي، قائماً على الخبز. فالرمز المسماري للأكل، هو علامة (الفم) مع علامة (الخبز) في داخله. وكلمة «أكالو» الأكدية تعني «يأكل»، وكلمة «أكلو» تعني «خبز». وتفيدنا السجلات الآثارية بأن سكان وادي الرافدين القدامى كانوا يصنعون أكثر من ثلاثمئة نوع من الخبز، الفطير وغير الفطير. وعندما تعلم أنكيدو (في ملحمة غلغامش) كيف يأكل مثل سائر بني البشر (بدلاً من ارتضاع الحليب من حيوانات البر)، كان أول شيء تعلمه هو أكل الخبز: «كل الخبز، يا أنكيدو، بهجة والحياة   كان الطعام العراقي الى وقت قريب سومرياً، وبابلياً، وفارسياً، وعباسياً، وتركياً. لكن ذلك كله ربما يعود الى جذوره السومرية والبابلية. فمأدبة آشور ناصر بال الباذخة لم تكد تستثني صنفاً ولوناً من ألوان الطعام

وإذا كانت الموسيقى في عهد نبوخذ نصر تتألف من أوركسترا من عدد متنوع من الآلات، فلا بد من أن مطبخه كان باذخاً في تنوعه أيضاً. ولا بد من أن الأخمينيين الفرس استعاروا المطبخ البابلي بعد احتلال هذه المدينة العظيمة، مثلما تعلم ملكهم اللغة البابلية. وهذا انتقل في ما بعد الى الساسانيين، ثم الى العباسيين، الذين كان مطبخهم باذخاً جدا

وكنت أحب أن أعرف ماذا كان أجدادنا العراقيون يأكلون، فرغيف الخبز العراقي الذي يخبز في التنور (وهي كلمة بابلية) كان سومرياً. ولعل خبز العروق المعاصر (وهو خبز بلحم وبصل وتوابل) ذو جذور بابلية أيضاً. ولا بد من أن الكليجة (المعمولة) كانت بابلية وآشورية، إن لم تكن سومرية أيضاً. ولعل وجبة التشريب (حيث يقطع الرغيف ويُثرد في صحن ليتشرب بمرق اللحم، ويوضع فوقه اللحم والبصل والحمص المسلوق) كانت سومرية. ففي وادي الرافدين (شمال سورية) دجنت الحنطة للمرة الأولى، وفي هذه المنطقة دجنت الخراف أيضاً. والمريس: ما مرسته في الماء من التمر ونحوه. لكن كلمة «مرسو» الأكدية تقال لضرب من الكعك (الكيك) كان يصنع من مزج نوع من الأشربة مع الطحين. بل إن كلمة «كعك»، التي نظن انها أصل كلمةcake يقال لها بالأكدية «كعاتو»

وقد صدر حديثاً لجان بوتيروJean Battéro الفرنسي كتاب ترجم الى الانكليزية بعنوان (أقدم مطبخ في العالم: الطبخ في وادي الرافدين)، وذلك بعد ان اكتشف المؤلف ثلاثة ألواح مسمارية في أرشيف جامعة ييلYale من المسماريات. وتحتوي هذه على خمس وثلاثين وصفة لأنواع من المرق، وهي أصناف مختلفة من اللحم يُطبخ في سائل دهين مع مطيبات حرّيفة وطازجة تضاف في النهاية، مثل الكرات المهروس، والثوم، أو النعنع. ومما يؤسف له ان هذه الوصفات ذكرت بإيجاز: «مرق الغزال. أعِدَّ مقداراً من الماء، وأضف سمناً، وملحاً، وبصلاً، وكراثاً، وثوماً». واللوح الثالث أكثر غموضاً، ويشتمل على ثلاث وصفات: اثنتين لطهي أنواع من الطيور، مع استعمال الخل، والبيرة، للنكهة، أحدهما كعصيدة، لكن يكاد يكون فك رموزها متعذراً. أما اللوح الثاني فيستأثر بفضول جان بوتيرو، لأن وصفاته السبع مفصلة وقمينة بجذب اهتمام ذواقة طعام فرنسي. فهناك فطيرة تُعدّ من الطيور الصغيرة مع القوانص والأحشاء، وتطهى بالبصل، والثوم، والكراث (يبدو ان الكرفس والبقدونس لم يكونا معروفين عندهم يومذاك)، وتقدم على رغيف خبز، مضافاً اليها في اللحظة الأخيرة بعض الكراث والثوم. وهناك وصفة أخرى فاخرة، من الحمام، حيث تُطهى الحمامة في مرقة غنية معدة من احشائها، ثم تمسح بالثوم وتقدم مع الخضار والخل. وتُحمص ساقاها، وتداف بالطحين. وهناك معلومات مفيدة في الوصفة: إزالة الغضاريف، ومسح الحمامة بعد رفعها من القدر ويشير جان بوتيرو الى التوازن المدروس بين مذاق لحم الحمامة، وحموضة الخل، ومرارة الخضار، ويصفه بأنه طبخ على يد ذوّاقة

تتفرد المآدب الآشورية عن المآدب التاريخية الكبرى في تنوعها وجسامتها وعدد المدعوين اليها إذ يستعد الجيش والشعب باسره للأعداد للدعوة وتوفير مستلزمات..فينطلق الجنود الى البراري ليس للحرب هذه المرة بل لمسك الجرابيع وصيد الطيور وجلب الحبوب والزيوت والمكسرات واعداد الأواني وجلب القزانات الضخمة واعداد القصابين لذبح آلاف المواشي وطهيها على مدى سبعة ايام..وتجدر الاشارة الى ان السومرين كانوا اول من اكتشف الخميرة الضرورية في اعداد الخبز وان البابليين اضافوا الى الطبق العراقي فضيلة الكمأ ..وكان الخروف العراقي يحتل اهمية خاصة في الطعام منذ العهود السومرية القديمة لأليته الوفيرة بالدهون التي وصفها هيرودوتس وعدها الأفضل في الخروف العراقي كونها تعطي للطعام مذاقا شهيا وبخاصة طبق (الهبيط) وهو من أفضل الوجبات العراقية ولعل من الطريف ان يعمد الصوفية في العهود المتأخرة الى تسمية الخروف (الشهيد ابن الشهيد) كناية عن لطف مظهره ووداعته وطيب لحمه..فضلا عن المسكوف وحلوى التمر بالدهن الحر المعروفة بالسميدو في بلاد آشور..كما كان السومريون اول من ابتكر العصائر والمشروبات ومنها الجعة التي انتقلت الى بابل ومنها الى نينوى وكالخو وآشور..ويقينا فان البحث في الطعام والمآدب عبر التاريخ يستغرق مجلدات لما فيه من تنوع ومتعة وظرافة..ولعل اكبر مأدبة في التاريخ القديم تلك التي اقامها ملك العالم آشورناصر بال الثاني احتفالا بأكمال بناء قصره الشمالي الغربي في كالخو (النمرود)

مأدبة العاهل الاشوري اشور ناصربال الثاني

وزعم آشور ناصر بال انه عندما افتتح القصر الملكي في كلخ، قصر البهجة الذي كان باذخاً جداً، أقام مأدبة لما مجموعه سبعون ألفاً من الضيوف، من ألف رأس مسمّن من الماشية، وألف عجل، وعشرة آلاف خروف زريبة، وخمسة عشر حمل، ومئات الأيائل، والغزلان، وآلاف البط، والإوز، وأصناف الطيور، وآلراف البيض، والأرغفة، وآلاف الجرار من البيرة، ورواقيد النبيذ، وأنواع الحبوب، والخضار، والزيوت، والأفاوية، والفواكه، وأكواز الفستق، والعسل، والزبدة الخالصة، والحليب، والجبن، والجوز المقشر، والتمر، الخ,

عندما أكمل آشور ناصر بال ملك بلاد آشور قصره البهيج المشاد بالحكمة ؛ دعا آشور الإله العظيم آلهة البلاد كلها … (فذبحت) 1000 ثور سمين و 1000 عجل ورأس غنم من الحضائر و 14,000 رأس غنم من عائدات الإلاهة عشتار سيدتي و 200 ثور من عائدات الإلاهة عشتار سيدتي و 1000 رأس غنم، ، و 1000 خروف ترعرع في ريعان الربيع ، و500 غزال [من نوع] الأيالو و 500 غزال [آخر] ، و 1000 بطة [أيشوروابوطو] و 500 بطة من نوع الأوسو [أوزة] و 500 أوزة و 1000 أوزة برية و 1000 طائر غاريبو ، و 10,000 حمامة و 10,000 حمامة برية و 10,000 طائر صغير ، و 10,000 سمكة و 10,000 جربوع و [معها] 10,000 بيضة و10,000 قطعة خبز و 10,000 وعاء من البيرة و 10,000 جراب من الخمرة و 10,000 حاوية من الحبوب والسمسم ، و 10,000 قدر من الـ … الساخن و 1000 صندوق من الخضراوات و 300 حاوية من الزيت ، و 300 حاوية من الشعير المنقوع (السليقة) ، و 300 (حاوية من نبات الراقاتو المخلوط و100 حاوية من القديموس و 100 حاوية من الـ …. و 100 حاوية من الشعير المحمص ، و 100 حاوية من الأبوخشينو و 100 حاوية من البيلاتو (البيرة) الممتاز ، و 100سلة من الرمان و 100 سلة من العنب و 100 سلة من الزامروس المخلوط ، و 100 حاوية من الفستق ، و 100 حاوية من الـ، و 100 حاوية من البصل و 100 حاوية من الثوم و 100 حاوية من القنيبخوس و 100 شدة من اللفت ، و 100 حاوية من العسل ، و 100 حاوية من السمن و 100 حاوية من بذور الشوء والمحمصة و 100 حاوية من نبات الكاركارتو ، و 100 حاوية من نبات التياتو ، و 100 حاوية من الخردل ، و 100 حاوية من الحليب و 100 حاوية من الجبن و 100 زبدية من شراب الميزو و 100 ثور محشي و 100 هومرات [مكيال عبري قديم] من مكسرات الدوكدو غير المقشر و 10 هومرات من الفستق غير المقشر و 10 هومرات من … ، و10 هومرات من الخباقوقو ، و 10 هومرات من التمر و 10 هومرات من الطيطيب ، و 10 هومرات من الكمون ، و 10 هومرات من الساخونو ، و 10 هومرات من الـ … ، و 10 هومرات من الأنداخشو و 10 هومرات من الشيشانيبو ، و 10 هومرات من السمبيرو و 10 هومرات من الخاشو [الزعتر] ، و 10 هومرات من الزيت المصفى الممتاز ، و 10 هومرات من المطيبات الممتازة ، و 10 هومرات من الـ … ، و 10 هومرات من قرع النصابو ، و 10 هومرات من بصل الزنزيمو ، و 10 هومرات من الزيتون . عندما باركت قصري كالخو (كان هناك) 47,074 رجل وأمرأة دعوتهم من أنحاء بلادي كافة و 5000 من النبلاء والمبعوثين من بلاد سوحو وهيندانو وباتينو وحاتي وصور وصيدا وكوركومو وماليدو وحوبوشكيا وكيلزانو وكومو ومصاصيرو [وكذلك] 16,000 من سكان كالخو و 1,500 زريقو من قصري – وهم معا (يصبحون) 69,574 وبضمنهم أولئك المدعوون من البلاد كلها ، ومن سكان كالخو فقدمت لهم الطعام والشراب لعشرة أيام وجعلتهم يستحمون ويدلكون بالزيت . هكذا أكرمت [ضيوفي] ، وأعدتهم إلى بلدانهم بسلام وبهجة

وفي ختام كتابه، يقول بوتيرو «ليس هناك ما يدعونا الى الاعتقاد بأننا قادرون على تناول العشاء الرباني مع أبناء وادي الرافدين القدامى. فلا أحد يستطيع معرفة النكهة الحقيقية للعشرات من اصناف المواد التي كانت تستعمل في تلك الطبخات». لكنه يعتقد أيضاً اننا نستطيع استرجاع بعض الشيء منها. لكن ما هو هذا الشيء الذي نستطيع استرجاعه؟ هل سيكون في وسعنا ان نتذوق مما كان يأكله ابناء وادي الرافدين عما تحدر الى المطبخ «العربي – التركي»، أو «اللبناني»، أو الشرق أوسطي، الذي نراه اليوم

وإذا لم يكن للمطبخ السومري تلك الصلة القوية بمطابخ الشرق الأوسط، فإن نوال نصرالله، الخبيرة بالمطبخ العراقي، ترى ان المطبخ البغدادي يعود في جذوره الى سومر. هذا ما قرأته في كلمة (بي ولسون) عن الكتاب الفرنسي المشار اليه أعلاه. فهي تجد أصداء رافدينية في «حبنا للخبز وفي الباجةpacha، التقليدية مئة في المئة». وهي وجبة تُعد من رأس، وكرشة، وقوادم الخروف بعد سلقها. فهذه الباجة تذكرنا بالطبخات السومرية التي تُعد من لحم الضأن. وأنا أضيف الى ذلك وجبة التشريب، أو ماء اللحم (وبالفارسية آب غوشتا)، فهي لا تكاد تكون معروفة خارج العراق وإيران. ولعل أصولها سومرية. وقرأت قبل سنوات كلمة جميلة عن أصل «الكباب»، في «الحياة»، لا أذكر بالضبط الى أين وصل به الكاتب. لعله رجع به الى العصر العباسي. لكنني أتساءل ان كان اصل الأكلة، وليس الكلمة، يرجع الى أيام بابل. وأنا لا أستبعد ان الكبة أكلة آشورية، وكذلك معظم الأكلات التي تُعد من الحنطة وجريشها... وكنت أفكر في البحث عن جذور «البقلاوة»، فليس من المستبعد ان تكون بابلية