السبت، 17 أغسطس 2013

التأثير الرافديني في حضارة وادي النيل




التأثير الرافديني في حضارة وادي النيل












إن أهم إنجاز حضاري وفكري حققه السومريون عبر التاريخ هو أختراعهم الكتابة التي شكلت انعطافة مهمة في التاريخ الإنساني برمته. إن انبثاق الكتابة على هذا النحو شكل معجزة حيرت الباحثين والعلماء والإثاريين والمؤرخين عن الكيفية التي استطاع من خلالها السومريين اختراع الكتابة المسمارية. والتي دونوا بها حضارتهم تاريخا، سيرا، حروبا، ملاحما، معتقدات، وأساطير.
أن أهم ما في هذه الكتابة أنها انجاز سومري بحت، أخذ يتطور عبر رحلة زمنية مهمة في تاريخهم. حيث راحت تتشكل هذه الكتابة من رسم للمنطوق أو الصوت الذي بدوره يتحول الى رمز ثم يتحول الرمز الى صورة كتابية يشتق منها اسم دلالي يتحول الى فعل والفعل يتحول الى دالة، وما بين حركة الآنتقالة تلك، بين الأفعال والأسماء، راحت تصاغ الجمل التي تعبر عن منظومة لغة متكاملة . ظلت هذه الآلية التي اخترعها السومريون هي النظرية المقبولة علميا حتى يومنا هذا في عملية نشوء الكتابة وتطورها. ثم انتقلت الكتابة السومرية ( بشكلها الصوري البسيط ) الى الهيروغلفية ( الكتابة المقدسة عند الفراعنة) والى الآرامية والأبجدية الفينيقية التي انتقلت بدورها الى الأغريق والتي شكلت فيما بعد أساسا للحرف الأروبي المعاصر.
مرت الكتابة السومرية بمرحلتين المرحلة الصورية ثم انتقلت بالتدريج الى المرحلة المقطعية ( خط ) والمقطعية المسمارية (مسمار)، هذه تحولت في الآكادية الى مسمارية . أي صارت مسمار، إن إنتقال الكتابة على هذا النحو كان إنتقالا تطوري بحكم الثقافة وربما الحاجة الى التعبير بصيغ أكثر دلالة على المعنى المراد التعبير عنه . مرت الكتابة السومرية بعدة مراحل تطورية حتى وصلت الى صورتها الأخيرة المتقدمة وهي مراحل تكشف عن الآلية التي تمت بها عملية ابتكارهم للكتابة:المرحلة الصورية: بدأ الخط المسماري بهيئة صورية قوامها علامات تمثل الأشياء المراد تدوينها، أي أن كل صورة تمثل كلمة. وتعتبر هذه المرحلة من أقدم المراحل في تاريخ الكتابة السومرية، وقد وصلت نماذج منها من الطبقة الرابعة من حضارة الوركاء .

المرحلة الرمزية : وهنا حدثت النقلة الكبيرة لقد تم ابتكار الطريقة الرمزية لكي يتمكن بواسطتها الكاتب من تدوين الأفكار والأشياء برسم صورة لها بهيئة مختصرة ، فأصبحت العلامات لا تعبر عن الشيء الذي تصوره فقط، بل تعبر عن أفكار ذات صلة بما تمثله تلك العلامة أو بعبارة أخرى استخدم الكاتب قيماً جديدة لعلامات كانت قائمة سابقاً ، مصدرها أفكار تتعلق بالمعنى الأصلي للشيء . المرحلة الصوتية : تمثل هذه المرحلة آخر مراحل التطور التي توصل إليها الكاتب السومري في استخدام الخط المسماري والمقصود بالمرحلة الصوتية هو إعطاء أصوات للعلامات تتناسب ولغتهم بشكل يجردها عن مدلولاتها الصورية والرمزية القديمة ويجعلها اكثر ثراء وقدرة على التعبير وصياغة المعاني. وبهذه الطريقة استطاع السومريون كتابة الأسماء والأشياء على هيئة مقاطع صوتية . الأمر الذي لم يعرف في الهيروغلفية الا في أوقات متأخرة جدا، ويبدو ان ذلك كان بتأثير بالغ من الكتابة المسمارية.في الواقع لم أرغب في الدخول بهذه التفاصيل المعقدة حول نشوء الكتابة السومرية والكيفية التي تمت بها لأن الموضوع كبير ومعقد وليس هنا محل تفصيله . فيما يتعلق بالكتابة العيلامية فهي كتابة مسمارية سومرية انتقلت من سومر الى العيلامين بفعل التجاور والاحتكاك المتواصل بين الجارين وذلك بداية من الألف الثالثة قبل الميلاد . إذ دلت الكشوف الإثارية على أن العيلامين كانت لديهم لغة للتخاطب ولكن لم تكن لديهم كتابة . ( لوح حاكم اراتا )فيما يتعلق باللغة الهيروغلفية في حضارة وادي النيل فقد أبانت الدراسات والكشوف والبحوث العلمية في أواسط القرن الماضي أن كافة منجزات الحضارة السومرية من الفنون والعمارة والنحت والكتابة وغيرها نقلت الى بلاد النيل بشكل كامل ألامر الذي أعتبر الاساس الذي بنيت عليه هذه الحضارة . وقدم تمت عملية الأنتقال هذه عن طريقين : الأحتكاك التجاري ، ثم عن طريق العمال المهرة المتجولين الذين كانوا ينحدرون الى مصر عن طريق بلاد الشام وفلسطين ، أو عن طريق الإبحار حول الجزيرة العربية والبحر الأحمر، وكانوا يقومون بهذا الارتحال في الأغلب الأعم ليس الى وادي النيل فحسب بل الى مختلف مناطق العالم القديم طلبا لتحسين ظروف عيشهم عن طريق العمل أو للتجارة ، وأنا شاهدت بأم عيني في الأهوار المنخل الذي كان يستعمل في الموصل شاهدته في هذه المنطقة، كما شاهدت أنواعا من الفخار الذي كان يصنع في سامراء في الالف السادسة قبل الميلاد في شمال بكين ويعود تاريخ هذا الفخار الى الألف الخامسة قبل الميلاد، أي أن هذا الفخار العراقي ظهر هنا بعد ألف عام، الأمر الذي يدل أو يؤكد أن عملية الانتقال للعمال أو التجارة كانت شائعة ومستمرة بين مناطق وحضارات العالم القديم . ونحن بهذا لا ننتقص من قيمة الحضارة المصرية في التاريخ القديم ، ولكن ما أثبته العلم الإثاري المتخصص في هذا الشأن هو مدى التأثير الكبير الذي شكله الرافد السومري في بنية الحضارة المصرية ، ولا يشذ عن ذلك التاثير شبه الكامل والمنهجي للكتابة السومرية في الكتابة الهيروغليفية التي اعتمدت في تطورها على ذات النسق الذي اعتمدته الكتابة السومرية في صورتها القديمة البدائية التي كانت تعتمد على الصورة ثم انتقلت الى الرمزية المقطعية. ولنا ان نأنس هنا برأي شيخ الاثاريين صموئيل كريمر في كتابه الموسوم ( اسطورة مصر) باحتمالية اخذ حافز في نشوء الخط الهيروغليفي متأثرا بالخط المسماري, وقد تم اثبات ذلك من خلال المونات الدبلوماسية للمصريين ( عصر العمارنة ) مع البابليين وبقية اقطار الشرق الادنى باستخدام الخط المسماري.
لقد تأثر بناة المصاطب التي تضم رفاة فراعنة مصر الأوائل في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد بالطراز المعماري العراقي في هذا الباب، كما تأثروا إلى جانب ذلك بعناصر فنية وتقنية عراقية أخرى في النحت البارز وعمل الأواني والجرار من الحجر المرمر والفخار وفي عمل الأختام الأسطوانية وكان ذلك في أواخر عصر نقاده المعاصر في الزمن لأواخر عصر الوركاء في العراق. وقد عرفت مدينة ماري وتل براك في سوريا الزقورة على الطريقة العراقية وشيدها الإيرانيون في موقع جوخة زنبيل وربما في تخت سليمان على الطريقة العراقية أيضاً

وفي الختام لن نجد تعليقا علميا وتاريخيا مسؤولا افصح من ما صرح به شيخ الاثاريين صموئيل كريمر في اطار العلاقة بين المسماري الرافدي والهيروغليفي المصري


وادناه نجتزء شئ من كتاب قصة الحضارة - الجزء الأول - الشرق الأدنى للمؤرح وول ديورنت والمختص بالحديث عن السومريين واثرهم في حضارات الشرق الادنى القديم:
 "أن عناصر معينة من الثقافة المصرية مستمدة من بلاد السومريين والبابليين. فنحن نعلم أن مصر وبلاد النهرين كانتا تتبادلان التجارة- وخاصة بطريق برزخ السويس- ولعلهما كانتا تتبادلان أيضا بالطريق المائي طريق مصاب الأنهر المصرية القديمة في البحر الأحمر . وإن نظرة إلى الخريطة لتوضح لنا السبب في أن مصر كانت طوال تاريخها المعروف تنتمي إلى آسيا الغربية أكثر مما تنتمي إلى إفريقيا.
لقد كان من السهل أن تنتقل التجارة والثقافة إلى مصر من بلاد آسيا بطريق البحر الأبيض المتوسط. ولكنها لا تلبث أن تعترضها الصحراء التي تفصل- هي وجنادل النيل- بلاد مصر عن سائر بلاد إفريقيا. ومن ثم كان من الطبيعي أن نجد في الثقافة المصرية عناصر كثيرة من ثقافة ما بين النهرين.
وكلما رجعنا إلى الوراء في دراسة اللغة المصرية القديمة زاد ما نجده فيها من صلات بينها وبين لغات الشرق الأدنى السامية. ويبدو أن الكتابة التصويرية التي كان المصريون يستخدمونها قبل عصر الأسر الحاكمة قد انتقلت إلى مصر من بلاد السومريين. والخاتم الأسطواني يظهر في أقدم العهود المعروفة من تاريخ مصر، ثم يختفي، وقد كان أسلوبا قديما دخيلا استبدل به أسلوب وطني أصيل. وليست عجلة الفخراني معروفة في مصر قبل عهد الأسرة الرابعة- أي بعد أن ظهرت في سومر بزمن طويل، ولعلها جاءت إلى مصر من أرض النهرين مع العربات والعجلات.
ورؤوس الصولج المصرية لا تفترق في شيء عن البابلية. ومن بين الآثار المصرية التي ترجع إلى عصر ما قبل الأسر والتي عثر عليها في جبل الأراك سكين من الظران الجميل الصنع عليه نقوش بارزة هي بعينها نقوش أرض الجزيرة من حيث موضوعها وطرازها. ولعل صناعة النحاس قد نشأت في غرب آسيا ثم انتقلت بعدئذ إلى مصر. وتشبه الهندسة المعمارية الأولى هندسة أرض الجزيرة في استخدام النقوش الغائرة لتزيين الجدران المتخذة من الآجر. وفخار عهد ما قبل الأسر المصرية وتماثيله الصغيرة وموضوعات زينتها تشبه مثيلاتها في أرض الجزيرة في كثير من الأحوال أو شديدة الصلة بلا ريب. ومن بين الآثار المصرية الباقية من ذلك العهد تماثيل صغيرة لآلهة لا يخطئ الإنسان في أنها من أصل آسيوي. ولقد كان الفنانون في أور ينحتون التماثيل وينقشون النقوش التي يدل طرازها وما جرى عليه العرف في صنعها على قدم هذين الفنين في بلاد سومر، وذلك في الوقت الذي يلوح فيه أن الحضارة المصرية لم تعد عهد بدايتها .

ولا غضاضة على مصر في أن تعترف بالسبق لبلاد سومر. ذلك أنه مهما تكن الأصول التي استمدتها مصر من أرض دجلة والفرات فإن هذه الأصول سرعان ما نمت وأينعت وأثمرت حضارة مصرية خالصة فذة هي بلا ريب من أغنى الثقافات المعروفة في التاريخ وأعلاها شأناً وأعظمها قوة؛ وهي مع ذلك من أكثرها رشاقة وجمالاً، حضارة إذا قيست إليها الحضارة السومرية لم تكن هذه إلا بداية فجة، بل إن حضارتي اليونان والرومان لا تفضلانها في شيء.