الاثنين، 19 أغسطس 2013

اختراع الاشرعة، صناعة القوراب، انظمة الملاحة ورحلة تور هيردل على القارب دجلة السومري




 اختراع الاشرعة، صناعة القوراب، انظمة الملاحة ورحلة تور هيردل على القارب دجلة السومري








عن موقع الدكتور بهنام ابو الصوف: http://www.abualsoof.com /index.asp

كان الشراع من بين أول وسائل استخدام طاقة الرياح.

 إن قلة الصور التي تمثل سفن بلاد ما بين النهرين تجعل من الصعب إجراء مقارنة. وكانت وسائل النقل المائية عندهم، كما هو معلوم حاليا، لم تكن قادرة على مقاومة الزمن. ورغم التقدم في الدراسة الآثارية عن السفن حول العالم فإن المعلومات عن القوارب والسفن في بلاد ما بين النهرين تبقى غامضة. وما بين أيدينا من معلومات لا يزيد عما في المصورات والنصوص.


وجد ما يمثل السفن في بلاد ما بين النهرين على الأختام والمنحوتات البارزة والنماذج. ولا يوجد في هذه الأشكال ما يكفي من التفاصيل تمكن من فهم أكمل لتقنياتها. ولم يكن للدراسات التي وضعت عن ذلك ما يكفي للمساهمة في محدودية فهمنا للموضوع، مكنها دراسة كوال:زوارق بلاد ما بين النهرين قبل 2000 ق م، و: سفن الشرق الأدنى القديم (222-500 ق م) من عمل ماري- كريستين دو گريـ، من قسم الشرقيات، جامعة لو ن، 1981.

ويمكن للنصوص القديمة من هناك والتي فيها قوائم عن أقسام الزوارق أن تعزز معلواتنا عن وسائل النقل المائية. غير أن هذه النصوص لم تفهم بما يكفي. وفي بداية الدراسات الآشورية لم يعرف إلا القليل عن تفاصيل بناء الزوارق. لذلك اعتمد العلماء كثيرا على تقنيات بناء السفن الحديثة في تفسير تلكم النصوص.

إن الدراسة الرئيسة عن الزوارق في نصوص بلاد ما بين النهرين توجد في العمل الموسوم:
Die Wasserfahrzeuge in Babylonien, Nach Sumerisch-Akkadiischen Quellen (mit besonderer Berucksichigung der 4. Tafel der serie H A r_raubullu). Eine lexiklische und kulturgeschichtliche Untersuchung, von Armas Salonen. (Mit 43 Tafeln und 5 Zeichungen)
Helsingforsiae, Societs Orientalis Fennica, 1939.
صار هذا العمل  المصدر الأول في تفسير النصوص السومرية والأكدية عن مصطلحات صناعة الزوارق.




تبين الصورة الأولى زورقا مربع الشكل فيه إلاهان؟ إو قائدان وضعا فوق نهايتي الزورق المرتفعتين. وقد يمثل هذا المنظر رموزا أيقونية لا معرفة لنا بمعانيها. إن تموج الخطوط أسفل الشكل يبين بأنه زورق. وتمثل الحيوانات والأشياء لأخرى حمولة الزورق. ويمثل الرجل الجالس على كرسي مرتديا قبعة وبيده شيء بأنه يقود الزورق أو أن له سلطة عليه. وليس باستطاعتنا أن نقول شيئا من التفاصيل التي عندنا.

تبين الصورة الثانية زورقا كجزء من استعراض جماهيري. وهناك إلى جهة اليمين رجل يجلس على كرسي (عرش). وإلى جانبه رجل يمسك بحيوان مقيد؛ ثم رجل بيده مرود أو عصى للمشي؛ ثم رجل جالس على ظهر الزورق. ومرة أخرى نجد خطوطا متموجة أسفل الزورق. وربما يكون هذا زورقا منجلي الشكل.
وتبين الصورة الثالثة زورقا منجليا، انحنت نهايتاه إلى الداخل، وفيه راية وملاحا واحدا يجدف. وليس من السهل معرفة معنى القضيب الذي بيد الرجل. ويبدو أن الزورق يقترب من قصر.
أما الزورق الآخر ففيه كثير مما يثير الانتباه. ويبدو كأنه زورق مربع ذي نهايات محنية للداخل وفيه أشياء نجدها في الزوارق المصرية. وينقل هذا الزورق قطيعا من الحيوانات (وفيه أشياء ربطت على ظهر ثور)، وفيه كابينة ورئيس، و له نتوءات تمتد عند مؤخرته، كما في الزوارق المصرية. ويبين الزورق الخامس ألواح رابطة على أمتداد طول الزورق وفيه كابينة وكجدافان يبرزان عند مؤخرة الزورق ولا نعلم سبب وجود الطائر هناك.
عرف كلكامش بأنه قائدا تاريخيا في سومر القديمة. وحكم مدينة أوروك حوالي 2900 ق م. وبعد عدة قرون وصل التجار السومريون إلى أراض بعيدة بالطرق البحرية، صدروا الحبوب والصوف والملابس والتي اشتهرت بها بلاد سومر، واستوردوا المعادن والأخشاب والهياكل، والأحجار الكريمة. ولم يكن من الممكن إجراء هذه الرحلات الطويلة مرات متكررة بدون وسائل ملاحية كافية.
يفسر بعض العلماء، وبخاصة من أميركا الجنوبية، رموزا مختلفة على أنها نصوصا مسمارية سومرية. وأكبر المنحوتات الصخرية في تلك المنطقة هي ما تسمى كاندليبرا، أو الرياح التي تواجه كل من يصل سواحل المحيط الهادي في أميركا الجنوبية عند خليج باراكاس. (اللوحة 138 a.). بموجب الأساطير المحلية فإن ذلك هو قضيب البرق ل: يراكوچا، كما يشاهد من أعلى بوابة الشمس في تياهواناكاو، والتي تعرفنا عليها بأنها شعار الشرق الأدنى عن "إلاه العواصف" (اللوحة 138 b)؛ وهو الابن الأصغر لأنليل والذي سماه السومريون أشكور، وسماه البابليون والآشوريون أدد، وسماه الحتيون تسحوب.

زوارق سومرية في الصف الأعلى، ومصرية في الصف الأسفل، من معركة بين الناس في دلتا النيل


ألملاحون السومريون في الخليج 

سفينة " دجلة " : قصة اثبات تاريخي لاستكشاف العالم

د. سيّار الجميل

“لقد عشت حياة ممتعة وأنا راض بالإبحار نحو الموت" تور هايردل
تحاول هذه الدراسة ، معالجة استكشاف الجذور التاريخية الاولى للملاحة في الخليج . لقد كان السومريون كبناة اول حضارة في التاريخ هم اصحاب تلك الجذور الكلاسيكية ، كما تبين معظم الادبيات التي عالجت آثارهم وتواريخهم منذ قرابة 7 آلاف سنة.. ويهمنا جدا ان نقرن دراستنا النظرية ومعلوماتنا المتوفرة بقصة اثبات تطبيقي لجذور تلك الملاحة الاولى، ليس في الخليج وحده ، بل في العالم اجمع . ان هذا جعلنا نحكي عن سفينة دجلة ( او : تايكرس ) ، وهي قصة اثبات تاريخي لاستكشاف العالم ولأول مرة ، معتمدين على وثائق مهمة. 

ينقسم البحث الى ثلاثة محاور :
1) مدخلات تعالج اهمية الموضوع والمراجع المعتمدة وكيف كان السومريون اول من اقتحم بحر الخليج في التاريخ ، وقد قدموا من أعاليه ، والقوارب المتنوعة التي استخدموها ، كما تشير الرسوم والآثار .. وفي خضم الجدل الدائر حول تسميته ، اقترحت مجلة نيويورك تايمز قبل اشهر تسميته بالخليج السومري الذي كان من بدء التاريخ وحتى اليوم من اهم بحار العالم المركزية ، وستبقى اهميته واستراتيجيته على امتداد زمن طويل . 
2) اما المضمون ، فلقد تناول البحث بعد ذلك حكاية مشروع تطبيقي لمعرفة وصول السومريين الى اقصى الاماكن ، ذلك هو مشروع المستكشف النرويجي ثور هايردل ، صاحب المشروعات البحرية الشهير ، وغدا عالما صاحب نظرية وتطبيق في آن واحد ، وكان مغامرا من اجل اثبات المعرفة النظرية بنفسه ، فغدا واحدا من اهم رجال القرن العشرين . ولعل مغامرته في السفينة دجلة التي بناها وانطلق بها في مياه الخليج ، فكانت اهدافها رائعة ، وبدأ بناء السفينة التي انطلق بها رفقة طاقم عمل في العام 1977 ، وكانت السفينة سومرية من قصب البردي منطلقا في نفس المسلك البحري الذي له محطاته ، مستخدما نفس الاشرعة السومرية ..
لقد توقف عند دلمون مرورا بالسواحل العمانية (= الامارات اليوم ) دخولا الى ىالبحر العربي والمحيط الهندي مع جملة مخاطر تعرضوا لها ، وصولا الى السواحل الهندية وقد تركوا آثار حضارتهم في كل محطات وقوفهم .. وعبر المحيط الهندي انطلقوا الى افريقيا ، ووصلوا عند النهايات سواحلها .. وكان المشروع يقضي بعبور البحر الاحمر والمتوسط ، ولكن وقف المشروع بتأثير الحرب وقت ذاك ولم يسمح لتايكرس المرور من خلال باب المندب برغم كل المساعي التي بذلت ، فما كان من قائد المشروع الا حرق السفينة تايكرس امام عدسات التلفزيون حتى غدت حطاما .
3) اما مخرجات البحث ، فهي وقفة تأمل في النهاية التراجيدية التي اختتم بها مشروع هايردل التطبيقي ، فلقد كتب ثور هايردل رسالة احتجاج الى الامم المتحدة ، قال فيها : " لقد اثبتنا أن السكان القدماء لوادي الرافدين والهند ومصر كانوا قد بنوا حضاراتهم الممعنة في القدم بالاستفادة من الاتصالات المشتركة عن طريق المراكب البدائية المتاحة قبل خمسة آلاف عام. لقد نشأت الثقافة من خلال التبادل البارع والمفيد للأفكار والبضائع. اليوم نحرق مركبنا البهيج بشراعه المرفوع رغم أنه في أفضل هيئة، وذلك احتجاجا على المظاهر اللا إنسانية في العالم والتي واجهناها بعد عودتنا الى اليابسة من فضاء البحار في عام 1978.".

أولا : المدخلات
1/ اهمية الموضوع 
لما كان الخليج العربي هو الامتداد الجغرافي والطبيعي لأولى الحضارات البشرية في التاريخ .. ولما كان السومريون هم اصحاب اول حضارة في التاريخ ، فلقد وجدت عدة آثار ولقى تؤكد وصول السومريين الى اجزاء عدة من منطقة الخليج العربي .. ونقلوا اليها بعض آثارهم وادواتهم وحاجاتهم .. كما وجد المنقبون والآثاريون الاوائل جملة دلائل تشير الى ان السومريين قد مخروا عباب بحر الخليج ، وكانوا من اوائل من عرف الملاحة فيه اولا ، وان الخليج هو اول بحر في جغرافية العالم قد عرف الملاحة على ايدي السومريين ثانيا .. ولقد بقيت الفرضيات والتكهنات رائجة في اوساط المؤرخين منذ القرن التاسع عشر حول هذا " الموضوع " ، بل ووقفنا على اكثر من " نظرية " حول ذلك .. ولكن المسألة بقيت من دون اي اثبات ولا اي تطبيق لأكثر من مائة سنة ! حتى اثبتت التكهنات بانطلاق مشروع حملة " دجلة " من العراق الى حيث نتابع ذلك تطبيقيا على ضوء خطوات تجربة المستكشف ثور هايدرال والطاقم الذي رافقه في رحلة قطع فيها بسفينة عراقية من القصب تنطلق عبر الخليج العربي الى حيث كان مقررا . لقد مضت قبل ايام ثلاثون سنة بالضبط على تلك الرحلة التاريخية الشهيرة التي شدّت انفاس العالم كله اليها .
2/ المراجع المعتمدة : 
لقد اعتمدنا في كتابة هذه " الدراسة " وتشكيل هذه " الرؤية " على مصادر معلومات ودراسات ومراجع مهمة جدا ، ولعل من اهم تلك المصنفات العلمية التاريخية التي تتفاوت عمقاً وأصالة ، والمتباينة حجماً وقيمة، كتاب "الحضارة السومرية" لمؤلفه "جاك بيرين" شارحاً تاريخ السومريين؛ ودورهم المتميز في تأسيس التاريخ الحضاري للبشرية جمعاء . وايضا : صموئيل ن. كريمر صاحب كتاب : السومريون : تاريخهم وثقافتهم وشخصيتهم .. الذي يدخل عالم الآثار، فينشر في كتابه رسوماً عديدة مهمة تصور مناحي مختلفة من تلك الحضارة السومرية، ويغوص اليان لاندو في التاريخ ليحلل جوانب الحياة وتنظيماتها الاولى مع تفسيره لذلك العمران، ويؤدي آراءه ويدعم استنتاجاته في كتابه عن السومريين . ولما كانت الجغرافية توجه التاريخ، وترعى انبثاقه ، فكان هاريوت كلايفورد قد استهّل كتابه : سومر والسومريون بالنظر إلى بلاد ما بين النهرين وعلاقتها بالاطراف التي تحيطها وخصوصا وان استراتيجيتها لا تكتمل الا بالتواصل مع ذلك المنفذ البحري ( = الخليج العربي ) .. وننتقل الى ما كتبه المستكشف ثور هايدرل عن رحلته التي شرحها في كتابه ( حملة دجلة : في البحث عن البداية ) من اجل ان يؤكد للعالم كله وللاجيال في المستقبل ان السومريين هم اول من ركب بحر الخليج العربي وامتدوا منه الى كل العالم ، وهم يحملون الدين والفن والالهة .. وليؤكد ان السومرية لم تبق ثابتة في الارض ، بل انتقلت الى كل من مصر والهند عن طريق البحر.. فضلا عن تأسيس اول للنظام التجاري وانشطته الاقتصادية .. ان هذه الجولة الممتعة بين مثل هذه " المصادر " قد جعلتني اقول ان الانطلاقة السومرية الاولى نحو العالم من خلال البحر قد جرت عندما بلغت الحضارة السومرية اوجها في عهد السلالة الثالثة لمدينة اور التي كانت عصر ذاك مركزا للعالم ، وهي المدينة الاولى التي انتجت تاريخ الملاحة البشرية . ولا يمكننا ان ننسى فضل بعض ما قدمته معلومات كل من الانسكلوبيديا البريطانية ودائرة معارف انكارتا وغيرهما من المراجع . أضيف الى ذلك حصولي على معلومات نادرة من بعض اعضاء الطاقم لسفينة " دجلة " ، وخصوصا ما يتعّلق بالجوانب العلمية للملاحة الاولى في الخليج وتطبيقاتها .
ثانيا : السومريون : أوائل التاريخ الكلاسيكي 
ان للسومريين دور بارز في تاريخ الشرق الأوسط ، وخصوصا في اعالي الخليج العربي بالعراق اليوم . فهم اوائل من أسّس الدولة والعمران والمؤسسات والحياة الاجتماعية وأنشأوا الحضارة الانسانية الاولى على وجه الارض .. تلك التي سادت في الألف الثالث ق.م ، والتي يعتبرها العلماء والمؤرخون أم الحضارات في الدنيا وبانية العمران ، وهم الذين أبدعوا الكتابة المسمارية، وأبدعوا النصوص الاولى من الأدب الخالد والآراء الدينية والروحية الفذة. ولقد انتقلت تجربتهم الاولى في الحياة التاريخية في الزمان والمكان ، فاذا كان من أتى من بعدهم قد اقتبس منهم الكثير وأمثاله كالذي فعله البابليون والآشوريون، وعن طريقهم وصل إلى فينيقية وسورية وفلسطين. وغدت اللغة الأكدية، وهي البابلية، مكتوبة بالمسمارية، وكاملة الانتشار في جميع أجزاء غربي آسيا. ولكن بقيت التكهنات والفرضيات لا حصر لها حول انتقال الابداعات ومنتجات السومريين عبر البحر الى اماكن عدة في العالم ، وخصوصا الى فينيقية ، وإلى فراعنة مصر. وانتقل الإله السومري تموز، فبات أشهر آلهة الفينيقيين. وتسرب قصص الخلق الاول وأحداث الطوفان وجنة عدن إلى البابليين. ان مسألة ركوب البحر من قبل السومريين تثبت هي الاخرى عظمة الانسان الاول وحركة علاقاته بالعالم كله ، وبداية التكوين الجغرافي والمعرفة الجغرافية عند الانسان الذي لم يقتصر بقاؤه على الارض عندما استخدم البحر وسيلة الانتقال وفتح العالم .. ان انطلاق السومريين في البحر عبر الخليج العربي يعد باكورة تاريخية قديمة لاستكشاف الارض والعالم ، خصوصا اذا علمنا ان الانتقال ذاك قد حدث بوسائل بدائية ازاء تحديات الطبيعة القاسية .. وهذا كله هو الذي دفع المجتمعات الآثارية والعلمية والاستكشافية إلى دراسة تاريخ السومريين، والنظر في معالم حضارتهم، وتتبع آثارهم ومخلفاتهم، والتأمل ليس في آدابهم وآرائهم الدينية والروحية، والاعراب عن ذلك جميعه في أسفار شتى لم يقتصر صدورها على وطن واحد أو أمة ، بل في اثبات اختراقهم البحر ، واستخدامهم الخليج العربي وسيلة ترانس وعبور نحو العالم كله . وتعلمنا المعلومات التاريخية ان للسومريين ثلاثة أنواع رئيسية من القوارب :
1/ قوارب من الجلد تتألف من زوارق جلود الحيوانات تخدم للمسالك القريبة . .
2/ قوارب من القصب الذي يخاط بالحبال ، وهي نوع من القوارب الشراعية المزفلتة بالقار ، وهي التي استخدمت في ركوب البحار.
3/ قوارب وسفن خشبية تعمل بطريقة الجذف ، وتستخدم في الانهار والاهوار وتسحب من قبل الانسان او الحيوانات بين الضفاف W. Hallo, W. Simpson (1971.
وتشير الرسوم المكتشفة في المدن السومرية القديمة ان السفن الاولى في التاريخ كانت تصاميمها تؤكد على ان استخداماتها قد جرت في وقت مبكر ، وثبت في وقت مبكر ايضا ان الحضارات قادرة على الهجره الطويلة عن طريق البحر والمحيطات .
ثالثا : " انه حقا خليج سومري " It's Really the Sumerian Gulf
بهذه العبارة او العنوان ، نشرت مجلة نيويورك تايمز مقالا يوم 17 يونيو 2008 ، جاء فيه بأن ما يطلق عليه بـ " الخليج الفارسي " هو بحر يكره العرب تسميته بذلك بالرغم من استخدام ذلك من قبل الجغرافيين ! وثمة جدل في الغرب وخصوصا في بريطانيا وامريكا حول امكانية تسميته بالعربي او الفارسي ، ولكن الجميع بدأ يختصر ذلك بـ " الخليج " وتلافيا للجدل والصخب بين كل من الطرفين ، فان الخليج هو المياة لأقرب حضارة عرفت قبل حوالي 5000 سنة من قبل السومريين ، كما كان يسمى في العصور الكلاسيكية ، واذا امعنا التفكير في الامر ـ كما يقول جورج ميجاونسكي وهو السومرليجست المعروف فتساءل : ما هو الخطأ في الدعوة الى ان يكون الخليج سومريا ، وقد رسم بنفسه الخرائط الاولى لذلك ! كما ان الفكرة الثانية حول هذا " الموضوع " هي الحاجة الملحة والضرورة القائمة لتشكيل نظام موثوق بين المجتمعات المعاصرة عودة لها الى بدء التشكيل الحضاري الاول ابان انبثاق العصور التاريخية الكلاسيكية الاولى (The New York Times, 17 June 2008 ) .
 المغامرة الاستكشافية " دجلة " السومرية عبر الخليج 
1/ الاهداف
لقد كان مثل هذا الموضوع الحيوي يشغل بال جميع المؤرخين الذين تخصصوا في ميدان الملاحة وفي تاريخ الخليج بالذات .. حتى انبثق مشروع عالم الانثربولوجيا والاركيولوجيا المستكشف النرويجي الشهير ثور هايردل Thor Heyerdahl الذي عرف بتجاربه الجغرافية واستكشافاته الكبرى وتطبيقاته في البر والبحر .. كانت تجاربه الكبرى عبر حياته الحافلة كلها ناجحة ، وكان قد خطط لمشروعه الاستراتيجي الذي يهدف من خلال نجاحه له : 1) اثبات ان السومريين هم اول من صنع السفن الشراعية من قصب البردي في منطقة اهوار العراق وابحر بها نحو المجهول عبر الخليج العربي . 2) اثبات ان الخليج العربي هو اول بحر يتعامل معه الانسان في ركوبه له ، وان بديات الملاحة البحرية لم يعرفها غير الخليجيين . 3) ان العراقيين القدماء ، والسومريين بالذات ، وهم من اقدم مؤسسي الحضارات البشرية ، قد ساعدهم البحر ليصلوا الى ابعد منطقة في هذا العالم . 4) ولقد قصد من دجلة ، إثبات ان التجارة والهجره يمكن ان تكونا قد ربطت بلاد ما بين النهرين مع حضاره وادي السند وحضارة مصر القديمة .5) ان البحار والمحيطات ليست فواصل وحواجز بين الشعوب ، بل كانت ادوات وروابط حقيقية في الانتقال والتحرك والتلاقي .
2/التأسيس
قبل الرحلة بعامين ، بدأ التفكير ببناء سفينة سومرية من اجل استكشاف المسالك البحرية القديمة التي أسسها السومريون .. لقد ولدت " دجلة " في ضمن هذا المخاض ، وقد تبين لهايرديل ان العراق يهتم كثيرا بالخليج العربي وتراثه .. وعند وصول هايرديل بغداد ، وجد اهتماما به يفوق التصور ، وقد بدا الحماس الكبير يظهره علماء العراق والآثاريين فيه وكان في مقدمتهم الاستاذ فؤاد سفر من مديرية الآثار العامة وكل الموظفين التابعين له ، اذ قدّمت لهم مساعدات قيمة .. وزاطلعوني على عالم السومريين وآثارهم وطرائق حياتهم واسلوب بنائهم للسفن وما كان للسومريين من تجارة برية وملاحة بحرية .. ولما نجحت في بناء تخطيط السفينة السومرية ، شعرت نفسي بأنني قبطان سومري . وبدأنا رحلة بناء السفينة ، وكان بمعيتي اعضاء الطاقم من الفريق الدولي .. مضينا نحو منطقة الاهوار ، وهناك عشنا بين عرب الاهوار من دجلة والفرات في جنوب العراق الذين يشبهون كثيرا في حياتهم هنود الايمارا عند بحيرة تيتيكاكا في بوليفيا ، بالرغم من ان عرب الاهوار العراقية يستخدمون الخشب اليوم في بناء زوارقهم بدلا من القصب ، في حين ان منازلهم الرائعة يقيمونها من البردي . لقد اخترت موقعا مثاليا عند التقاء دجلة والفرات .. نعم ، عند جنة عدن ، وتقوم بالقرب منّي شجرة كبرى وامامها لوحة كتب عليها " هذه شجرة آدم " . نعم ، هنا الى هذا المكان تهفو قلوب الملايين من المسلمين والمسيحيين واليهود .
3/الانطلاق 
" في عام 1977 باشرالرجل مشروعه العراقي ، وكان العالم يتابع عمله خطوة خطوة .. فقد كانت أسئلة الحضارة القديمة والاهتمام بمدى انتشارها عبر اهم مسرب جغرافي منها نحو العالم ، فضلا عن شغفه بحل ألغازها .. وكان ذلك في حقيقة الامر ، هاجسه الدائم.. فكان ان إجاب عن السؤال المتعلق بسر انطلاق حضارة وادي الرافدين السومرية ووادي النيل وشبه القارة الهندية في أزمنة متقاربة، وأن الحضارات المذكورة كانت مترابطة مع بعضها الاخر ، وليست منعزلة عن بعضها كما هو الاعتقاد السائد وقت ذاك . ومن اجل إثبات نظريته التي اوضحنا اهدافها ، قرر هايدرل الإبحار بقارب سومري يبنيه بنفسه على النسق نفسه الذي وجده في آثار السومريين القدماء ، ولما انتهى من بناء ذلك القارب ، أسماه "دجلة" ، وسينطلق به من العراق إلى شبه القارة الهندية ، وهو سيمخر من خلال بحر الخليج والبحر العربي، ومن ثم ينتقل ليجتاز مضيق باب المندب ويعبر خلال البحر الأحمر حتى مصر ( = بلاد الفراعنة ) وهنا يؤكد على تأثير اول حضارة عراقية في التاريخ على مصر ونشوء الحضارة المصرية .
4/الاختيار 
لم يكن اختيار الموضوع والبدء بالتخطيط وسرعة العمل وانطلاق المغامرة يأتي كله من فراغ .. لقد كان هايردال ذكيا في اختيار أفضل مكان لبناء السفن من القصب .. والقصب هو البردي العراقي المشهور انه من جنة عدن ، وان الاسطورة تتحدث عن آدم الذي اختار له شجرة في ذاك المكان الساحر من جنوب العراق ، ولم تزل تلك الشجرة حية ترزق حتى يومنا هذا وهي قريبة من المكان الذي بدأ العمل ببناء دجلة ، كان المكان رائعا ، واشعة الشمس ساطعة قوية في بلاد الشمس .. اختيار المكان كان موفقا جدا يطل على مصرف لاحد الانهار الجارية على امتداد ايام السنة ، وهو يتدفق منذ الازل حاملا عذوبة جبل آرارات ، حيث تعيش الاسطورة في الذاكرة البشرية عن سفينة نوح التي بناها من اجل حماية كل المخلوقات على وجه الارض من الطوفان .. ثم تستقر السفينة على جبل الجودي وذلك منذ وقت طويل؟
4/المغامرة 
منذ تلك اللحظة التاريخية التي اندفعت الخطة من بين التاريخ والاسطورة .. الارض واليابسة .. الماء والقصب بدأت المغامرة التاريخية بقيادة ثور هايردال وعشر من رفاقه القادمين من تسع دول مختلفة كي يثبتوا للعالم اول استكشاف للعالم من قبل الانسان .. كانوا يبحثون عن اسهل الطرق البدائية من اجل التنفيذ وفقا للزمان وتبايناته بين اليوم واكثر من خمسة الاف من السنين ، وبنفس الادوات والوئسائل التي استخدمها السومريون انفسهم منذ ذلك الزمن ، وخصوصا في البحر والسفن التي صنعوها .. بدأ العمل بسفينة من القصب البردي ، والبردي قدم خدمات لا تثمّن للبشرية كلها ، خصوصا اذا علمنا انه لا ينمو الا في المستنقعات والبيئات النهرية دائمة الجريان . ان البردي هو المقوّم الاساسي للحضارات النهرية القديمة .. وكانت منطقة اهوار جنوب العراق اخصب منطقة في العالم بهذا القصب . وكانت الخطة ذكية جدا بتنفيذ ما كان السومريون قد استخدموه ، فالقصب خفيف جدا ، وقوي له القدرة على التحّمل .. وان اي زورق او مركب او سفينة لا يقتصر امرها على البردي فقط ، بل كان القطران الاسود (= الزفت ) يساعدها عندما تطلى به بفنية عالية .
5/هايردل والعرب
كان المستكشف البحار هايردال يؤمن بدور الانسان الى ابعد الحدود ، وكان امميا من الطراز الأول، ينطلق باسم الانسان والعالم كله لا باسم اي دولة او قارة او قوى ، وهو لا يرفع على مراكبه واشرعته غير علم الأمم المتحدة . كان الرجل حريصا على جمع أعضاء طاقم فريقه الاستكشافي الذين كان يحرص على جمعهم من دول عدة وثقافات متنوعة ليجدوا انفسهم مندمجين في ورشة عمل دائبة الحركة ، او خلية نحل متكافئة ، تزول بينهم حواجز اللغة والجنسية والدين، فضلا عن كونه عالما باصول الانسان والاثار، ومغامرا، وبحارا، كان فنانا مبدعا وكاتبا واكاديميا ومؤرخا غزير النتاج. ويخلص احد المعجبين بادواره قائلا : " كان هايدرل واحدا من عظماء عصرنا دون أدنى شك. " كتب هايدرل عن العرب الذين عاش وتعامل معهم عند بنائه للسفينة دجلة ، فكتب في كتابه يقول : " لقد عشت مع اناس بدائيين في بولونيزيا وأمريكا وأفريقيا، ولكن عرب الاهوار هؤلاء ليسوا بدائيين بأي صورة من الصور.انهم متحضرون ولكن بطريقة تختلف عنا. ليس لديهم تكنولوجيا التحكم عن بعد، لكنهم اختاروااقصر طرق المتعة ومن مصادرها مباشرة. وقد اثبتت حضارتهم أنها قابلة للحياة والاستمرار،فيما انهارت الحضارات الاشورية واليونانية والفارسية بعد ان وصلت قمة ازدهارها ".

6/السفينة " دجلة " 
كان طاقم ثور هايردل قد اجتمع في منطقة الاهوار بجنوب العراق ، وبدأ العمل ببناء السفينة "دجلة" التي كانت كل موادها من قصب البردي العراقي المقطوع من وسط الهور، ولقد اختير البردي كونه استخدم من قبل السومريين الاوائل في تشكيل مهد الحضارة السومرية. ولقد استطاع هايردال الاستفادة من خبرة شيوخ مسنّين ولدوا وعاشوا حياتهم في تلك المنطقة ، وخصوصا أن البردي الذي يقطع في شهر آب / اغسطس هو الأفضل نوعاً لصنع مركبه المتخيل الذي سيمضي به في البحر ، والذي سيختبر به ويتتبّع طرق الملاحة والتجارة في العصر السومري، وايضا ليثبت من خلال " دجلة " أن الحضارة البشرية نشأت من مصدر واحد ، بل وليغدو دجلة هو الجذر الاول للملاحة ، وان الملاحة في الخليج هي الاولى في الارض على وجه الاطلاق . وقد طعّم هايردل طاقمه الاممي بشاب ، وتتبع مع هايردال خطى اجداده السومريين بمغامرة غاية في الشجاعة.
7/ طاقم " دجلة " 
لقد عمل على متن السفينة " دجلة " طاقم يتكّون من احد عشر من الرجال ( من دون اي امرأة ) : ثور هايدرل ـ قائد الفريق ـ (النرويج) ، المستكشف الكابتن نورمان بيكر (الولايات المتحدة الامريكية ) وهو الساعد الايمن للقائد ، ومتسلق الجبال الشهير وخبير الحبال كارلو ماوري (ايطاليا) ، الطبيب الدكتور يوري سنكافيج (اتحاد الجمهوريات الاشتراكيه السوفياتيه) ، الاركيولوجي عالم الآثار جيرمان كاراسكو (المكسيك) ، ، المترجم الفنان رشاد نزار سليم (العراق ) (نعم ، لقد أصر قائد المشروع ان يكون عراقيا معهم ، وكان يدرس الفن انذاك ، ورشاد هو ابن أخ الفنان العراقي الكبير جواد سليم، فأتيحت لرشاد فرصة هي للحلم أقرب مما للواقع)، الخبير الفني والمصور نوريس بروك (الولايات المتحدة الامريكية ) ، والمصور المحترف تحت الماء الفنان تورو سوزوكي (اليابان) ، البحار الكابتن ديتليف زولتزيك (المانيا) ، والمساعد الفني ( الطالب ) اسبيورن دامهز (الدانمرك) ، والمساعد ( الطالب ) هانز بوهن (النرويج). لقد كان جميع افراد الطاقم من الرجال الاشداء ، وبينهم بعض المختصين والعلماء .. وقد عرفوا من خلال حملتهم التاريخية تلك ، والتي اكدت من خلالهم ، ان الشعوب يمكنها ان تتلاقى وتعمل معا من اجل اهداف مشتركة . ولم يشركوا اي أمرأة معهم ضمن الطاقم ابدا .
8/الابحار عند اكتمال بناء السفينة ، أبحرت "دجلة" لأول مرة ، وكأنها تتمثّل اول سفينة شراعية في التاريخ ، ومضت في لجج بحر الخليج بعد توديع حافل لها ، ومضت مسافة تزيد على ستة آلاف كيلومتر من مكان انطلاقها على نهر دجلة، ومن ثمّ نهر شط العرب،ودخولها الى الخليج، وكانت رحلتها في الخليج سليمة متخذة وسط البحر سبيلا لها ، ومن ثم تراءت صورتها واضحة من شطآن دولة الامارات العربية المتحدة ، ومضت عبر مضيق هرمز واجتازته بنجاح بالغ ، ودخلت الى خليج عمان ، ومضت في طريقها حسب الخطة المرسومة لها نحو الباكستان ، ثم غادرتها عائدة نحو بحر العرب،فاجتازته بنجاح بالغ ، ثم وصلت الى خليج عدن . وهناك توقفت ليس بسبب اي عطل طارئ ، بل لسبب سياسي ! .
 دخول مياه الخليج العربي
كتب هايردل وهو داخل مقصورة السفينة القصبية " دجلة " وهي تمخر عباب الخليج ، وهو يتذكر مغادرته العراق ، قائلا : " الماء رائق كالبلور ، والنبت المائي يغطي القعر. شاهدت سمكا واكاليل وردية طافية على السطح. انسللنا بصمت بعيدا عن المرج الأخضر، وانزلقنا بين جدران باسقة من القصب والعشب المائي. وحين غطتنا النباتات المائية ، وأغلقت البوابة الخضراء خلفنا، شعرنا اننا غادرنا صخب العالم الحديث وضجيجه وانتقلنا بسرعة مركبة فضائية الى الماضي السحيق. ومع كل ضربة مردي من ملاحينا الصامتين، أحسست اننا نسافر في الزمن الى الوراء، ليس الى الهمجية والأخطار، بل الى حضارة بعيدة عن ذلك كبعد حضارتنا المعاصرة، لكنها عجيبة في البساطة وعدم التعقيد ". وأضاف يقول : " اننا الان مخر عباب الخليج ونستذكر اولى خطوات الانسان في اعماق البحر.. انها الخطوات الكلاسيكية التي سجلت اندفاع البشرية للتواصل والاعمال والتجارة .. انها الخطوات الاولى لانتشار الحضارات البشرية الاولى في العالم كله ".
 دلمون
اندفع دجلة اولا في مياه نهر دجلة ، ثم دخل شط العرب ، ولم يمض الا وقت قصير حتى وجد نفسه يشرع وسط عباب بحر الخليج ، ولأول مرة اّحس المبحرون انهم من السومريين الاوائل الذين اكتشفوا كيف يمخرون في اهم بحر لم يكن فاصلا بين الشعوب في العالم ، بل كان واسطة او جسرا يربط كل الشرق بالغرب ، ولأول مرة شعروا انهم في بيئة بحرية مألوفة كانت مساعدة تماما ومنذ زمن مبكر بالجمع بين الحضارات . انهم وجدوا انفسهم لا يربطون التاريخ الحضاري بين العصور الكلاسيكية القديمة والزمن المعاصر لنا ، بل شعروا انهم يربطون لأول مرة بين النهر والمحيط عبر البحر ، اي عبر الخليج العربي وخليج عمان .. انهم ربطوا بين اسفل دجلة وشط العرب وبين المحيط الهندي .. انهم وجدوا انفسهم في بحر له سواحله المتقابلة على كلا الجانبين .. انهم وجدوا انفسهم حقا في عداد عظام المستكشفين في القرن العشرين لا المكتشفين الاوائل في عصر السومريين .. انهم شعروا انهم يحملون رسالة حضارية لا الى ابناء هذا العصر وحده ، بل الى كل الاجيال من ابناء المستقبل .. كانت المقطوره الى البحرين اولا التي تنتشر فيها اللقى والآثار ، وانهم حددوا موعدا مع الاسطوري دلمون ، حيث البحث عن ziusudra ، وعن نوح السومري ، وتسويتها بعد الفيضان الاعظم . التدمير الذي واجهته عند المنحدرات الجنوبيه من الشعاب المرجانيه والعربية ..
 اشرعه دجلة الى الماضي 
كتب ثور هايردال وهو يمخر عباب الخليج قائلا : " نومي متقطع حتى وانا في منتهى التعب ، انني استيقظ لهدر الاصوات والامواج في هذا البحر الجميل .. جسدي لم يعرف الراحة ابدا ، وانا اعيش متعة هذا التنطط بعنف على ظهر مركب سومري من القصب ، هو ليس ببدائي الا في عرف من لا يعرف الا ركوب السيارات الفارهة ، ولكنني اجده رمز الحياة في التاريخ ، وهو الذي اوصلنا الى ابتكار ليس السيارة ، بل سفن الفضاء ! انني ارى مياه هذا " البحر " تتدفق الى اسفل المقصورة .. ونما ان اسمع صيحة في الخارج على سطح السفينة ، كنت اعلم اننا كنا في مأزق. الكابوس ان تجاوزت العاصفة علينا ونحن في ظلام مفاجئ .. واناشد الطاقم كله بالانتشار كي نعادل انفسنا بسرعة وابقي المقود بيدي ولكن السفينة ترهق كثيرا عندما تلعب بها الامواج بلا اية كوابح .. الريح صرصر عاتية مزمجرة مزوره .. اشعر بأن قدّمي بلا اي بدن وقد غدونا هياكل او مجردين من كل الهياكل .. في خضم التيه وزمجرة البحر لا اسمع الا اصوات ست لغات تختلط صيحاتها مع بعضها الاخر : انكليزية وروسية وعربية ويابانية ومكسيكية واسكندنافية .. خرجت لأرى تحطم رأس السارية العليا .. الانسان اعتاد هذه الاجتياحات من الطبيعة منذ الاف السنين ، فهو عملاق ازاء كل التحديات .. اخشى على الصواري الانكسار ، وعلى الاشرعة التمزق .. عندما يهدأ البحر وتطلع الشمس نجد انفسنا نختلف قليلا عن الالواح الخشبية .. تعود السفينة الى استقرارها ومرونتها وهدوئها وتسير كأنها زلاجة على ثلوج الاسكيمو ، وليس كأن عمرها اكثر من 5000 سنة ، قالها الملاح يوري ! في الحقيقة ان يوري على صواب : سفينتنا ليست حديثة التكوين ، بل لها اسلوب عاش منذ آلاف السنين ، ومارسته اجيال وراء اجيال ! " .
تأسيس المسالك التجارية البحرية 
كان لا بد لنا ونحن في مياه الخليج ان نمتلك نفس الاسلوب السومري من الرحله الملاحية القديمة .. اننا تتتبع المسالك البحرية لزمن بعيد مضى ، وهي التي صارت طرق التجارة .. اننا ننطلق من هنا لنثبت للعالم اننا جئنا من مملكة سومر .. اننا نفتتح البحار او نعيد انتاج مسالك البحار .. اننا قد فتحنا الابواب على مصاريعها امام العالم .. نزلنا من ميزوبوتيميا ( = بلاد ما بين النهرين ) التي تسمي اليوم بالعراق صاحب اقدم حضارية بشرية ، اذ كانت قد ازدهرت الحضارة السومريين عند ملتقى دجلة والفرات لأكثر من ألف سنة ، إبتداء من نحو 3500 قبل الميلاد ، وربما كان رأس البحر يدخل في اعماق العراق . السومريون لم يعتمدوا الخليج لوحده في نشر حضارتهم ، بل كانت آسيا الصغرى (= الاناضول ) ومجتمعات البحر المتوسط برمتها ..
لقد دلتنا الاقراص السومرية التي كتبت عليها عدة نصوص تحكي معلوماتها قصص ارض بعيدة باسم دلمون وماغان وملوّحة .. التي نحث الخطى لرؤيتها .. ونحن نستعد لذلك مع شروق الشمس . لقد كان السومريون قد غامروا فعلا بطوافاتهم البدائية في البحر ، وانتشروا على السواحل ، او مضى بعضهم الى الدواخل .. هنا ندحض كل مقولة تعتقد بعزلة المجتمعات البعيدة .. لقد قضيت الجزء الاكبر من حياتي وانا احاول دحض من يقول ان البحر كان عائقا أمام البشريه والسفر والتبادل الثقافي.
 السواحل العمانية تنادينا 
نعم ، لقد شعرنا بأن الارض تنادينا عند سواحل الامارات العربية المتحدة فنرسل اليها بتحياتنا .. ومن المؤكد لو كنّا سومريين لوجدنا انفسنا ندخل واحدا من الاخوار وننتشر في تلك الارض لنبحث لنا عن واحات واشجار ومياه عذبة .. ونصل الى واحات العين وهيلي والقطارة في العمق ها نحن نمر في مضيق هرمز بين اسنة الجبال على الطرفين لننزل في مسقط عمان محققّين اكبر انجاز تاريخي بقطعنا بحر الخليج .. وفي السواحل العمانية بيئة من نوع آخر ، ولكن اين هو ذلك الهرم او الزقورة السومرية .. في جنوب عمان ؟ لقد حققنا خطوة جريئة اخرى في خليج عمان كيب نبحث عن مناجم النحاس القديمة القريبه ، ولكنها غير معروفة حتى الان ، والتي لا بد ان تكون قد زودت كل من سومر ودلمون باحتياجاتهما . ها نحن وصلنا الى الهرم السومري .. نعم ، انه يتطابق مع ذاك الذي وجدناه في الارض العراقية الام ، في سومر .. او ذاك الذي وجد في امريكا ، وسنمضي بالسفينة دجلة الى الارض الامريكية لنحقق ما جاء في الاسطورة السومرية .. ان هايردال واثق من انه عثر على مكان الاسطوره.
 البحر العربي والمحيط الهندي
1/ مخاطر في الطريق الى الباكستان
كنا في الخليج نواجه سفن البترول العملاقة ، ولمدة ثلاثة ايام ونحن نصارع الرياح والامطار الثقيلة .. ونحن نراوغ من اجل اجراءات سريعة ازاء تلك الناقلات الضخمة التي ننحشر بينها ، ونصبح لا شيئ امامها وخصوصا عند تدفق الامواج علينا منها .. كان من يقود سفينتنا في انذار تام ومستمر دائم وهو يرصد كل حركة ، ولعل من اخطر الاحوال ان تقترب اي سفينة مّنا في ليلة موحشة والامطار كثيفة ، وكان علينا ان نعتمد فقط على آذاننا ، وفجأة يصل تحذير في كثير من الاحيان عند وقت متأخر وبخطورة بالغة .. وفي مرة من المرات ، مرت بالقرب منّا سفينة هائلة لم نكتشفها او نسمع بها الا اننا شممنا بعد اجتيازها رائحة المازوت والدخان .. ربما كانت ستعلسنا دون ان يحس بنا احد ! لقد تجنبنا الكوارث . وفي 27 كانون الثاني / يناير 1978 ، لاحت امامنا سواحل شمال غرب الباكستان ، فاقتربنا منها شيئا فشيئا عند المساء ، وفجأة اندلعت عاصفة هوجاء باتجاه البحر ، فاصبحنا نتلوى في الماء ودجلة تعتلى الامواج وتهوي سريعا .. كان الرعد مخيفا حتى استقر كل شيئ .. وتوقفنا في ميناء مدينة وادي موهانجو دارو بجوار نهر شمال شرق كراتشي ، ونزلنا الى الارض الباكستانية وقد اخذنا التعب الى اقصى الحدود . كانت المدينة من اهم الحواضر .. وفيها متحف صغير يضم لقى فنية مستردة من الانقاض .. ولفت الانتباه الى حجر املس ، وختم محزوز مصغر مع منجل على شكل سفينة ، مع كامل سطح السفينة ، والمقصورة وبين اثنين من السواري التوأم ، وهي توجه المجاذيف في مؤخرة السفينة . انه نفس التكنيك السومري القديم في صناعة سفن البردي التي قدمت من العراق الى موهانجو دارو عبر بحار الجيران .. لقد اكتشفنا بما لايقبل مجالا للشك ان السومريين كانوا وراء نشوء حضارة وادي السند عبر الخليج .
2/ في المحيط الهندي نحو افريقيا
مضت ثلاثة اشهر علينا منذ ان بدأنا الرحلة في " دجلة " ، وكنّا قد دخلنا بها في نهر يحمل اسم السند .. لم نصدّق اننا وصلنا الى هنا ، ولكن تذكرنا احد اصدقائنا من عرب الاهوار والذي كان قد تنبأ بوصولنا الى جنوب آسيا ، ولكن ليس الى شرق افريقيا . بدأنا نتحول شيئا فشيئا للابحار نحو افريقيا ، ولكننا لم نفّكر ابدا بنهاية لرحلتنا التاريخية التي كان العالم يترقبها .. كانت المياه مليئة بالسرطانات وينتشر الاوز في كل مكان .. وتجد قوافل الاسماك الصغيرة بمختلف الالوان تمر من حولنا ، وكأنها تعلن توديعها لنا وهي تجذب مجموعة من الدلافين الزاحفة بشكل قوس قزح .. ثم ازدحمت من حولنا اسماك القرش .. كانت الاسماك تحيطنا من كل الاطراف ، بل ويحلق بعضها على متن سفينتنا ثم يغيب .. كانت رحلتنا عبر البحر العربي والمحيط الهندي لا تخلو من اخطار في الظلام خصوصا .. مع اشتداد الرياح او مع زخات المطر الكثيفة .. ولا يمكننا ان نبقى في مقصورتنا ننتظر الكارثة ، بل كان لكل واحد منا مهمته وواجبه .. اما في الاوقات الصافية ، فكّنا غالبا ما نحتفل معا بشي الاسماك .
لاحت امامنا رؤوس الجبال وبان لنا خليج عدن عند منطقة القرن الافريقي .. وفجأة بدأت خرخشة اذاعة تعلن عن سفينتنا التي لها مهمة انسانية تسعى للاتصال بين الامم ، وهي تثبت للعالم الدور التأسيسي لاقدم الحضارات البشرية ، وسمعنا : داعيا الى دجلة .. داعيا دجلة ، لا تتوقف في سقطرى ، وانك ستكون في خطر .. تجنب الصومال ، فالبلد في حالة حرب .. ثم اعلن رفضه لمنح الاذن لدخول مياه اليمن الجنوبي الديمقراطي ، ذلك لأن الحرب لم تزل مستعرة في ارتيريا .. كنت على امل ان ابحر في البحر الاحمر نحو مصر ، واتوقف كي اذهب برا الى اثيوبيا ، ولكن الصراع من جميع الاطراف قد منعنا ، وسد علينا الطريق !
النهايات 
1/ الحظر 
نعم ، لقد وصلت الاوامر بمنع السفينة السومرية " دجلة " من عبور مضيق عدن (= باب المندب ) نحو البحر الاحمر .. كانت الحجة الاعلامية تقول بسبب كثافة التواجد العسكري والقطع البحرية في خضم الحرب الباردة ولعبة الصراع الدولي ، ولكن الحقيقة السياسية ، تقول ان ثمة مؤامرة اقليمية وعربية سياسية كانت قد تبلورت ضد هذا " المشروع " .. وعبثا ذهبت محاولات هايردل الذي استمات من اجل ادخالالسفينة " دجلة " باب المندب والانطلاق الى مصر عبر البحر الاحمر .. يقول هايردل نفسه في كتابه عن سفينته مقاطع حزينة جدا ، وهو في غاية الاحباط من المعاملة القاسية التي تلاقاها من السلطات العربية .. ويكتب احد الدارسين قائلا :" فحرمت بذلك السفينة السومرية من معانقة شواطئ الفراعنة فأثبتت أن حضارة القرن العشرين أكثر توحشا من حضارة أسلافنا التي كان هايردال يتتبع مساراتها " .
2/ الاحتراق 
نعم ، يكتب هايردل في كتابه قصته مع البحر والتاريخ .. قصته مع دجلة الاصل والفرع .. كان يكتب ويسجل على اوراقه وهو في دواخل الخليج والبحر تلك المعلومات وبمدى متسع من الرؤية .. كان فرحا للغاية ، ولكنه يصل الى اقصى درجات الانفعال والامتعاظ ويسخر قائلا : هل بالامكان ان سفينة من القصب البردي العراقي تمّثل خطورة على الاساطيل وحاملات الطائرات ؟ ام هل ان السفينة دجلة لا يراد لها ان تعانق حقيقة ارض الكنانة ؟؟ " . وعليه ، فقد قرر بالتشاور مع طاقمه حرق السفينة في عرض البحر امام انظار العالم كله اذ نقلت الكاميرات ذلك المشهد المؤلم الذي جرى قبالة شواطئ جيبوتي يوم 3 نيسان / ابريل 1978" ، وقد كان حرق دجلة بمثابة رسالة احتجاجية على منعه اولا ، وضد التوتر العسكري وسياسة المواجهة التي تعرّض حياة البشرية لخطر الفناء. ثمة اسبابا اخرى دعته الى اتخاذ قرار حرق السفينة ، منها انه لا يمكنه ترك سفينته تصيبها العفونة وسط السفن العسكرية ، فضلا عن ان الحرق سينهي حياة السفينة دجلة بدل ان تكون مادة دعائية للنظام السياسي في العراق وقت ذاك .. وكان هايردال ممتعضا من الاسلوب الذي استخدمه العراق بجعل الحملة دعاية سياسية وليس حملة حضارية في اجهزة الاعلام والصحف ! وان هايردال كان مقتنعا ان السفينة ان بقت ، فستكون سببا في حدوث مشكلة بين العراق والنرويج ، او بالاحرى بين الحكومة العراقية وبين متحف تيكي Tiki في النرويج ، والذي يحتفظ بالعديد من ادوات هايردال التي استخدمها في استكشافاته . واليوم لا يحتفظ ذلك المتحف الرائع الا على مجموعات نادرة من الصور الملونة عن السفينة " دجلة " وطاقمها الذي تفرقت به السبل .
مقدمة الزورق دجلة قبل بدء الرحله
من يتذكر ثور هيردال عالم الأنثربولوجيا النرويجي .. صاحب فكرة اتصال الحضارات الذي ركب زورق البردي دجله من القرنة جنوب العراق عام 1977 نحو مجاهل المحيط ليثبت تواصل حضارة وادي الرافدين مع حضارات العالم القديم بقارب البردي . لقد جاء هيردال الى العراق ومعه خمسة من صانعي القوارب من قبيلة آيمارا من هنود امريكا الجنوبية التي يستخدم في صناعتها البردي كما هو
في اهوار العراق وجنوبه وهم : 1- باولينو 2- ديمتريو 3- خوان 4-خوسيه 5- المترجم لويس سيفالوس

ثور هيردال عالم الأنثروبولوجيا النرويجي
.. وقد قاموا بصنع القارب في مدينة القرنة جنوب العراق وملتقى نهري دجلة والفرات في شهر آب 1977 تحت درجة حرارة 50 مئوي ورطوبة 90 بالمئة وهي ظروف قاسية جدا" ولكنها ملائمة لقطع البردي بهذا الظرف بالتحديد وقد اختار ثور هيردال اعضاء رحلته بعناية فائقه لتمثل توجها حضاريا وانسانيا وهم 1- الرحالة النرويجي ثور هيردال 2- الملاح الامريكي نورمان بيكر 3- الطبيب السوفياتي يوري سينكيفيتش 4- متسلق الجبال الايطالي والخبير في الحبال كارلو ماوري 5- القبطان الالماني الغربي ديتلر زويتسك 6- الآثاري المكسيكي هيرمان كاراسكو 7- المصور في ظروف أعماق الماء الياباني تورو سوزوكي 8- الطالب النرويجي بيتر بينون 9- الطالب الدانماركي اسبيورن دافهوس 10- المترجم الفنان رشاد سليم وهو ابن الفنان نزار سليم اخ الفنان العراقي العظيم جواد سليم 11- المصور السينمائي الامريكي نوريس بروك ……
ولد النرويجي ثور هيردال(1914م في لارفيك جنوب النرويج - ). وهو من علماء علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، ومؤلف ذاعت شهرته سنة 1947م عندما أبحر في طوف من خشب البلزا يسمى كون ـ تيكي من بيرو إلى جزر تواموتو شرقي بولينيزيا.
وقد قطع هو ورفاقه الخمسة الرحلة لكي يثبت نظريته بأن جزر بولينيزيا يمكن أن يكون قد وصلها الهنود من جنوب أمريكا في تواصل انساني حددته الكثير من السمات والأحداث. يحكي كتابه كون ـ تيكي (1950م) قصة هذه الرحلة البحرية. وفي عام 1958م كتب أكو ـ أكو، كتاب عن جزيرة إيستر. وفي عام 1970م سافر هيرد ومعه سبعة من البحارة في قارب من قصب البردي سماه موروكو رع 2 من مراكش إلى باربادوس. وصرّح أن هذه الرحلة قد برهنت على أن المصريين القدماء أمكنهم أن يبحروا في قوارب مشابهة إلى العالم الجديد. وتعتبر رحلته في القارب دجله ضوءا على حضارة وادي الرافدين وعلاقتها بالحضارات الأخرى .. لكن هيردال اعترضته سفن الأساطيل الدوليه التي ملأت المحيط الهندي وبحر العرب .. ووجد ان رحلته الى جانب الأخطار الطبيعيه تتهددها ظروف عسكريه وسياسيه تمنع استمرارها فقام بأحراق قارب دجلة في ميناء جيبوتي احتجاجا على عالم قبيح .. وانتقل بعدها للعيش في شمال ايطاليا يعيد اصدار كتبه ويؤلف كتبا جديده حتى توفي عام 2007 .. كلما اذهب الى لارفيك ازور معهده والتقي صديقي ايريك مدير المعهد واتأمل صورة هيردال الرجل الذي احب العالم القديم واحب بلاد الرافدين
 

  منقول عن 

http://www.abualsoof.com/